قرار البرلمان أولًا ثم الدستور كان قرارًا إشكاليًا. وقد تسبب فى صعوبات سياسية وقانونية كبيرة لا بد للقوى السياسية التكاتف لإيجاد حلول توافقية لها.
فالبرلمانات لا تضع الدساتير ولا يمكن أن تضع الدساتير فيما بعد الثورات وفى حالة ولادة نظام سياسى جديد. ففى غالب هذه الأحوال، كما تدلنا التجارب الدستورية المقارنة، تقوم لجنة تأسيسية أو جمعية وطنية بوضع الدستور. وفى ٩٪ تقريبا من الأحوال، يضع الدستور لجنة تأسيسية مختارة من البرلمان، وهو الوضع الذى تم الاتفاق عليه فى مصر ونتج عن الاستفتاء على تعديل الدستور والإعلان الدستورى الذى تبعه. وفكرة الجمعية الوطنية، أى هيئة مكونه بصورة موسعة وممثلة لجميع فئات الشعب، هى الأنسب والأكثر استخداما فى حالة الانتقال من نظام دكتاتورى إلى نظام ديمقراطى أو من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعدد حزبى. فالنظام السياسى الجديد يحتاج إلى عقد اجتماعى جديد وإلى وضع القواعد الأساسية للعبة السياسية والاتفاق على مبدأ وكيفية بناء المؤسسات السياسية، أى الدستور، قبل أية انتخابات تشريعية أو رئاسية. أما فى نظام سياسى قائم فيه مؤسسات الدولة موجودة وتعمل بصورة طبيعية، فكثيرا ما يقوم البرلمان باقتراح تعديل الدستور أو حتى بإصدار دستور جديد. وغالبا ما يأتى النص الأول للدستور أو التعديل الدستورى فى هذه الحالات من السلطة التنفيذية ويقوم البرلمان بالتصويت على المشروع.
والمشكلة تحديدا ليست فقط فى أن انتخاب البرلمان جاء سابقا على الدستور، وليست أيضا أن البرلمان أعطى سلطة وضع دستور مصر القادم (أو الانفراد باختيار اللجنة التأسيسية التى سوف تقوم بوضعه)، فهذا يحدث فى التجارب المقارنة. وإنما المشكلة تكمن فى الأمرين معا، أى انتخاب البرلمان قبل الدستور ثم انفراد البرلمان باختيار اللجنة التأسيسية التى سوف تقوم بوضع الدستور قبل وجود دولة مؤسسات قائمة وتعمل. هذا هو الوضع المنبثق عن الاستفتاء على تعديل الدستور الذى جرى يوم ١٩ من مارس سنة ٢٠١١ والمادة ٦٠ من الإعلان الدستورى الصادر فى ١٣ من فبراير٢٠١١. والسبب يتعلق بالمنطق المجرد: فلا يعقل مثلا فى مباراه لكرة القدم بين الأهلى والزمالك أن يوكل إلى النادى الأهلى إعادة كتابة قواعد لعبة كرة القدم لمجرد أنه فاز بالشوط الأول أو بالمباراه الأولى فى الدورى أو حتى بأكثر من مباراة.
والسبب يتعلق أيضًا بالمنطق القانونى والسياسى: فالدستور من وظائفه الأساسية أن ينظم نطاق سلطات الدولة الثلاث (السلطة التشريعية بالإضافة إلى السلطتين التنفيذية والقضائية). وبالتالى فلا يجوز وليس من المنطقى أن يختص البرلمان بتحديد اختصاصاته، بل والنص على هذه الاختصاصات فى الدستور. وإن حدث هذا نجد أنفسنا أمام مخلوق قانونى وسياسى غريب: برلمان منتخب وديمقراطى ولكن سيد قراره (حقوق المؤلف محفوظة للترزى)، أى برلمان له سلطان مطلقة فى تحديد نطاق اختصاصاته (حيث لا معقب عليه سياسيا إلا الشعب فى الانتخابات المقبلة ولا معقب عليه قانونيًا إلا إحساس أعضائه بما هو حق وما هو عدل). ولأننا كلنا بشر؛ فالنتيجة الطبيعية والضرورية أن الأغلبية البرلمانية أيا من كانت وبغض النظر عن لونها السياسى سوف تسعى إلى إطلاق صلاحيات البرلمان وتقييد السلطات الأخرى للدولة.
فالبرلمان سوف يحدد مثلا سلطات ونطاق رقابة المحكمة الدستورية والتى تختص بالرقابة على مطابقة القوانين التى يصدرها البرلمان للدستور. أى أن البرلمان سوف يكون له اليد العليا على السلطة التى تراقبه بصورة مباشرة، فيجوز له أن يحد صلاحيتها بل ويجوز له إلغاؤها تماما من المقرر (أى الدستور)! وسوف يحق للبرلمان أن يحدد قواعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة فى ضوء ما يتراءى له من تخطيط سياسى للانتخابات المقبلة.
ونحن لاشك لدينا فى حسن النوايا، ولكن هذه مسألة مبدأ والقانون (ومن باب أولى الدستور) يشرع لينظم المجتمعات بصورة منضبطة ولا يتوقف تطبيقه والانصياع لأحكامه على أهواء الناس وفرض حسن النوايا (وهو فرض قابل لإثبات العكس).
وحيث إننى لا أرى نفعا من الحزن على الفرص الضائعة أو الندم على ما فات، فالأجدى بنا هو التفكير فى مقترحات بسيطة لآلية اختيار اللجنة التأسيسية ولآلية وضع الدستور تتفق مع المسؤلية التاريخية الواقعة على الأغلبية البرلمانية المقبل وعلى جميع أطراف اللعبة السياسية، وتكون مقبولة فى الوقت نفسه فى حدود المعقول والممكن سياسيا فى الوقت الحاضر بما يتفق مع هذه المرحلة من الحراك (أو الشلل) السياسى.
**
أما عن كيفية تشكيل اللجنة التأسيسية، فلا أرى جدوى من محاولة إعادة النظر فيما تم الاتفاق عليه من خارطة طريق لوضع الدستور وعلى من سيضع الدستور. إلا أنه من الممكن والمهم أن تتوصل القوى السياسية إلى حلول توافقية تجبر ولو جزئيًا العيوب التى تشوب الوضع الحالى، دون إضعاف بالضرورة للدور المتفق عليه سلفا (مع المجلس العسكرى) للأغلبية البرلمانية المقبلة.
مسألة اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية أو الجمعية الوطنية فى الأصل بسيطة والحل مستق من التجارب الدستورية المقارنة ولم يكن يتطلب قدرات غير عادية للتوصل إليه أو لتطبيقه. يتم اختيار أعضاء اللجنة أو الجمعية الوطنية من فئات الشعب المختلفة ومن جميع مجالات الحياة. فمثلا تقوم نقابة المحامين باختيار ٥ أسماء، وكذلك نقابة المهندسين والأطباء والصحفيين. ويتم اختيار عدد من أساتذة الجامعات، وعدد من اتحادات العمال، وكذلك يتم اختيار عدد من العلماء البارزين، والشخصيات العامة
وممثلى منظمات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية وشباب التحرير بالإضافة إلى عدد من أساتذة القانون الدستورى ورجال القانون ذوى الخبرة فى النواحى الفنية لصياغة الدساتير. ويجب أيضا أن يراعى فى تشكيل اللجنة التنوع الجغرافى فيشمل مثلا سيناء والصعيد والمحافظات الحدودية، وأن يراعى تمثيلا كافيا للمرأة.
هذا التنوع يجب مراعاته فى تشكيل اللجنة التأسيسية أو الجمعية الوطنية ولا غنى عنه إذا ما أردنا دستورا للخمسين أو المائة سنة المقبلة يليق بتاريخ هذا البلد ويمكنه أن يؤسس نهضته المقبلة والمرجوة. فبعيدا عن القانون وبالمنطق المجرد، الدستور هو عقد إجتماعى، بالمعنى الحرفى والتلقائى لهذا اللفظ. فهو يتضمن اتفاق بل إجماع المجتمع بكل فئاته ومختلف تياراته السياسية والدينية والاجتماعية على مجموعة من المبادئ الأساسية. هذه المبادئ ليست فقط سياسية فى طبيعتها، وبالتالى لا يحق للساسة الاستئثار بوضعها؛ وانما هى أيضا مبادئ اجتماعية واقتصادية يجب أن يكون لشعب مصر كله يد مباشرة فى تحديدها.
فيجب أن يتم الاتفاق على ضوابط واضحة وملزمة لاختيار أعضاء اللجنة بما يضمن تنوع صفات وخبرات أعضائها وتمثيلهم لجميع فئات الشعب. فيمكن مثلا تحديد ١٠ أو ١٥ طائفة يتعين أن يتم الاختيار من ضمنها (كالأطباء أو أساتذة الجامعات..)، بحيث يختار ٥ أعضاء للجنة من كل طائفة من الشخصيات العامة والمعروفة بخبرتها فى المجال، من قائمة تقدمها الجهة الممثلة لهذه الطائفة. فمثلا يقوم كل اتحاد أو نقابة بتقديم قائمة من ٢٠ اسما تختار اللجنة التأسيسية منها.
ويمكن كذلك تعيين عدد إضافى من شباب التحرير كأعضاء فى اللجنة بما يضمن وصول صوت الميدان ودمجه ليس فقط فى العملية السياسية ولكن أيضا فى العملية الدستورية وهى أهم عمل سياسى يتاح للشعب المصرى أن يقوم به منذ ١٩٥٢.
***
أما عن آليات وضع الدستور، فالتاريخ يعلمنا أن الدساتير الناجحة كان مضمونها هو الآخر توافقيا. فلا يكفى أن يكون تشكيل اللجنة التأسيسية متنوعا، وإنما يجب أن يتاح لفئات الشعب غير المسيسة أو الأغلبية الصامتة كما نسميها الآن أن تلعب دورا ولو محدودا فى وضع الدستور، وهذا هو أفضل ضمانة للاستقرار السياسى وإيجاد مناخ موائم للتقدم. والتجربة الجنوب أفريقية فى وضع دستور ١٩٩٦ وهى تجربة فى التحول نحو الديمقراطية ناجحة بجميع المقاييس يمكن أن يحتذى بها.
أولا أرى أن الاقتراح بأنه يمكن وضع الدستور فى غضون شهر أو أشهر قليلة مسألة هزلية. فبعض المسائل الأساسية التى ستجابه وضع الدستور مثل النظام الاقتصادى للدولة أو النظام الأمثل للتأمين الاجتماعى أو ربط الأجور بمستوى الأسعار كمبدأ دستورى أو التوجه نحو اللامركزية الإدارية وتقليل دور القاهرة كعاصمة مصر ومركزها لكل شىء وما بعدها الطوفان، بل اختيار عاصمة إدارية أخرى لمصر فى جنوب الوادى، مع الإبقاء على القاهرة كعاصمة سياسية... إلى غيرها من المسائل المصيرية، تتطلب بحثا متعمقا وشاملا قبل التوجه نحو اختيار معين أو اختيار فى اتجاه آخر.
كذلك قد يكون من المفيد أن يفتح الباب لمؤسسات المجتمع المدنى وأساتذة الجامعات (من كليات الحقوق وكليات الاقتصاد والعلوم السياسية والإدارة وغيرها) والخبراء بل وخواص الأفراد أن يتقدموا باقتراحات بمواد مباشرة للجنة الصياغة. فالشعب المصرى شعب حكيم وحتى لأبسط ناسه حكمة نادرة خلاصة ٧٠٠٠ سنة حضارة؛ هذه الحكمة هى رصيد مهم يجب الاستفادة منه. وفى جميع الأحوال، فثورة الشعب هى التى أسقطت النظام القديم والدستور القديم، والشعب فى عمومه هو من قام بها وبالتالى فالشعب فى عمومه أحق بأن يلعب دورا فى صياغة العقد الاجتماعى المقبل.
وأعتقد كذلك أنه من المهم أن تقوم اللجنة التأسيسية بنشر المسودة الأولى للدستور، وأن تطرحها للتشاور العام وأن تعطى الشعب فترة كافية للنظر فيها بل والتفكير. ثم تدرس اللجنة التأسيسية ردود الفعل والمقترحات بمواد وتأخذ ما هو مفيد منها فى الاعتبار، ولا شك لدى أن العديد من هذه المقترحات سوف يكون مفيدا للغاية ويعكس بصورة صادقة رغبات أساسية وبسيطة لمن قاموا بالثورة. ولا شك أن الحصول على رأى الشعب مسبقا أفضل من كتابة الدستور بمعزل عن الشعب والانتهاء من كتابته ثم عرضه على الشعب كأمر واقع لابد من قبوله وإلا دخلنا فى نفق مظلم من عدم الاستقرار والفوضى. ولذلك فالاستفتاء اللاحق على الدستور لا يغنى عن إشراك الشعب فى تشكيل مضمونه.
ولاشك أن أخذ هذه المسائل كلها فى الاعتبار فى وضع الدستور سوف يترتب عليه تأخير جذرى فى البرنامج الزمنى لكتابة الدستور وتأخير موعد انتخاب رئيس للجمهورية، وهذه مسألة خطيرة تهدد استقرار البلد وتوازن القوى السياسية.
***
ولذلك فالحل هو فصل الدستور عن السياسة، أى فصل عملية وضع الدستور عن العملية السياسية وخارطة الطريق الموضوعة لتنفيذها. ويتم ذلك بأن تقوم الأغلبية البرلمانية بوضع دستور مؤقت يكون مبنيًا على دستور ١٩٧١ مع تعديل الباب الخامس فيه، وهو الباب الخاص بسلطات رئيس الجمهورية، ثم اختيار رئيس جمهورية بناء عليه، ثم كتابة دستور مصر الدائم على مهل وبصورة تليق بمستقبل مصر فى الخمسين سنة المقبلة. هذا ما قامت به دولة جنوب إفريقيا. فقد بدأت القوى السياسية فى تنفيذ المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية، تحت دستور مؤقت، وفى الوقت نفسه بدأت فى كتابة الدستور الدائم فى سنة ١٩٨٨ وأتمته فى سنة ١٩٩٦.
الوطن والدستور للجميع...
[عن جريدة الشروق المصرية]